عن الاستقرار الوجودي
جدول المحتويات
لكي تجني من الوجود أسمى ما فيه، عش في خطر! - فريدريك نيتشه
أحد المعايير التي آخذها بالاعتبار قبل الكتابة المطولة في هذه المدونة يكمن في الإجابة على سؤال: هل هذا الموضوع قابل للاسترسال؟ هل هناك مزيد في جعبتي حيال هذا الأمر؟ هل يمكن أن أؤلف كتابًا كاملًا -أو أكثر- في هذا الشأن دون الرجوع إلى مرجع آخر غير هذا الرأس؟
فكرت بجملة من المواضيع المحتملة، وأتت مسألة الاستقرار (الوجودي بالتحديد) في أعلى القائمة.
بحثت عن مصطلح «الاستقرار الوجودي» بالعربية والإنجليزية، فلم أجد نتائج تذكر. لذا، ها أنا ذا، أدلي بدلوي، وأنشر شيئًا مما يدور داخل رأسي، ويتقلّب في قلبي.
سأبدأ بالحديث عن التوق إلى الاستقرار، مشاركًا لمحة مما كنت أمر به مؤخرًا، ثم أستعرض تفسيرًا تطوريًا للمشاعر السلبية، وبعدها أدخل في مفاهيم الاستقرار والوجود والاستقرار الوجودي، وأذكر العوامل المؤثرة فيها، ومن ثم أناقش جدلية الاستقرار والتطور، وأخيرًا أختم باقتراح خطوة عملية.
قبل الدخول في صلب الموضوع، سأشير إلى ملاحظتين سريعتين:
- حديثي هنا يركز على الفرد كوِحدة تحليل أساسية. لن أحلل الاستقرار كمفهوم فلسفي أو قانون فيزيائي، كما لن أناقش استقرار المنظمات والأنظمة، وإنما سأستعرضها من حيث تأثيرها المباشر على حياتنا كأفراد، وكيفية تعاملنا معها.
- هذه التدوينة ليست فلسفية بالدرجة الأولى، وهي بطبيعة الحال ليست علمية تمامًا، لكنها تشملهما وأكثر. إنها عبارة عن استعراض شامل لعدة جوانب تتداخل فيها المنظورات الفلسفية والعلمية والتجارب الشخصية والمشاعر الذاتية، وهو الأسلوب المفضل لدي، امتدادًا لرواد فلسفة الحياة اليومية في ثقافتنا العربية، كأبي عثمان الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وإخوان الصفا وخلان الوفا، وغيرهم كثير.
التوق إلى الاستقرار
الذي دفعني للكتابة عن الاستقرار ابتداءً هو حالة الاضطراب المزمنة التي أعيشها شخصيًا، ويعيشها بعض من حولي، في أهم جوانب الحياة: المهنة والمال، العلاقات العاطفية والاجتماعية، الفكر، النفس، إضافةً إلى التنقلات الجغرافية المستمرة، وهذا بدوره ولّد توقًا دفينًا إلى الدفئ، إلى البساطة، إلى البراءة الصادقة، إلى الترابط الاجتماعي، إلى الماضي السحري، إلى حلم الجنة الأبدية، إلى اليوتوبيا المستحيلة. وكما قيل (نسبةً إلى المتنبي):
والضد يظهر حسنه الضدُّ
وبضدها تتميز الأشياءُ
أتساءل من وقت لآخر: هل أعيش هذه الحالة بسبب طبيعة «العالم المعاصر» التي تفرض علينا مستويات غير مسبوقة من الضغوطات النفسية والاجتماعية والمادية والوقتية؟ هل كانت «حياة الطيبين» مستقرة، مترابطة، سالمة، وداعمة؟ (إجابة سريعة: لا، لم تكن كذلك، أو هكذا الأمر في حالتي على الأقل. فحياة كل من أبي ووالديْه، وأمي ووالديْها، كانت مليئة بالتنقلات والتقلبات المستمرة، ولا يختلف الأمر كثيرًا مع الأجيال السابقة على أجدادي. أنا أنحدر من سلالة عريقة جدًا، إلا أنها ليست صديقة للاستقرار.)
لنعد الآن إلى حياة عبدالرحمن. سأترككم مع رسالة طويلة أرسلتها منذ بضعة أسابيع إلى شخص بعيد في المسافات الجغرافية، ولا يفارقني في المسافات الروحية، قلت فيها:
Honestly, deep down, when it comes to the big picture, I still feel unstable. I’m aware that it’s a transitional phase, but you know what? I’ve been living in 'transitional phases' for 9 years now (since 2015). I don’t even know if I’m ever going to live without being in such a phase. Constantly changing and moving between different worlds, different people, different places, different ideas, even different identities with my own self. Sometimes I wish I was born like a normal person: born and raised in one place, growing up in the same place with the same people, having clear study and work paths, getting married and having kids, then retiring and dying in the same space, all while being rooted and deeply connected with the same society where they belong. I feel I have no roots. No belonging. No connection with any large collection of individuals.
:I recently wrote this
I feel numb from the inside'
I feel not just a 'decision fatigue', but an existential, life fatigue
It’s difficult to relate to anything
It’s difficult to connect with anything
It’s like I’m living by myself in an isolated planet
My story isn’t like any other
'My concerns aren’t like any of the others
And I’m loosing all deep connections: with people, places, ideas, activities, and everything.
?Where’s my compass
?Where’s my guiding north star
Unstable, swinging between ups and downs, can’t see anything anymore. I just wanna get steady in my existence, somewhere somehow, and have ultimate permanent constants that stabilize my existence to some degree. I want to have roots.'
It’s not only geographic. I’m also facing financial instability (since I work online independently, there’s no fixed salary at the end of the month). Both of these are affecting other aspects like social, psychological, and .even physical health
.I’m so tired of this instability
.I just wanna be somewhere safe
وأكملتها قائلًا:
There’s a novel called Ulysse from Baghdad (أوليس البغدادي), written by my favorite novelist ever: Éric-Emmanuel Schmitt. The novel tells the story of an Iraqi illegal immigrant who was smuggled through multiple countries without any documents with the aim of settling in England. I’ll share some quotes from the very beginning of the novel, which highly resonate with me
Note: I don’t like to take the role of a victim, and I don’t like negative talk and complaining in general. I try my best to stay positive and focus on what I can do practically within my capacity. But these days I find it difficult not to get dragged into that line of thought, and I’m sharing my honest thoughts and emotions without any walls or filters.
I know it takes so much time, it takes years and years until you see actual, concrete results. Those years have the power to wipe out your soul, just like a nuclear reactor. Nevertheless, rest assured, I still have that little torch hidden deeply at some corner inside my heart, and I’m willing to keep it safe until it finds the right environment to shine and expand, and spread the light to the whole universe with no limits
-
كانت هذه حالتي قبل بضعة أسابيع، أما الآن فمشاعري أفضل بكثير، رغم أن الظروف الخارجية لم تتغير كثيرًا. مشاركة الأفكار والمشاعر بصدق وشفافية عالية مع شخص يستمع إليك بإنصات واهتمام دون إطلاق أحكام يمكن له أن يساهم في تحسين المزاج جذريًا، ووجود شخص أو أشخاص مقربين من حولك يتيحون لك المشاركة بأعلى درجات الشفافية يعد من نعم الحياة العظمى التي لا يحظى بها الكثير من البشر، إن لم يكن الأكثر.
تفسير تطوري
يتعلق التوق إلى الاستقرار، جزئيًا على الأقل، بغريزة البقاء. في كتاب «أسباب وجيهة للمشاعر السيئة» من تأليف البروفيسور راندولف نيس Randolph M. Nesse مؤسس مجال الطب التطوري والطب النفسي التطوري Evolutionary Medicine & Evolutionary Psychiatry - يرى المؤلف أن الكثير من المشاعر السلبية، كالخوف والقلق والاكتئاب وغيرها، قد تطورت لتخدم أغراضًا تطورية، أي لتساعدنا على الاستمرار بالبقاء.
لتوضيح الفكرة، فلنَعُد قليلًا إلى الوراء، بضعة آلاف من السنين، ونسترجع حياة الإنسان البدائي وأسلافه من الـ Homos وغيرهم. كانت الحياة اليومية تحفها المخاطر الجسدية من كل حدب وصوب: فقد ينقضّ عليك أسد أو فهد، أو تلدغك أفعى مسمومة، وقد يأكلك تمساح جائع وأنت تسبح في بحيرة، وإذا كنت تفضل السباحة بالبحر فقد يبتلعك حوت عملاق، أو ينهش عظمك ويتلذذ بلحمك قرش مفترس. تخيل معي لو أن أحد أسلافك من تلك الحقبة رأى أسدًا يسير باتجاهه ولم يشعر بأدنى درجة من القلق، وظل واقفًا في مكانه يتفرج بكل برود؟ لنفترض أنه نجى لسبب أو لآخر في تلك الحادثة بالتحديد، لكن ماذا لو كان هذا أسلوب حياته الدائم؟ حينها لن تكون قادرًا على قراءة هذه السطور، لأن جد جد جد جد جد جد جد (x100) جدك، وكل من بعده، لن يكونوا على قيد الحياة، وأنت من بعدهم.
جهازنا العصبي تطور بطريقة تجعله مستعدًا للمخاطر المحتملة من البيئة المحيطة. هذا هو الأصل البيولوجي، لكنه استمر معنا إلى يومنا هذا، وأصبحت له تطبيقات مختلفة عما كانت في السابق.
حالة عدم الاستقرار في جوانب الحياة تصحبها حالة من اللايقين. هناك معلومات مهمة مفقودة، بالتالي توجد احتمالية للخطر تهدد قدرتنا على البقاء. فعندما لا يتوفر ضمان للأمان، يتوقع الدماغ السيناريو الأسوأ تلقائيًا لكي يحمي نفسه. في زمن الإنسان البدائي كان هذا الضمان يتجسد في بعض التطبيقات الواضحة، مثل أن يتناوب الذكور الأقوياء على حماية الجماعة ليلًا، عندها يستطيع البقية أن ينعموا بنوم آمن مريح. أما اليوم فأصبحت الضمانات مفقودة أو شبه مفقودة في كثير من شؤون الحياة المهمة، كالدخل والسكن والعلاقات وغيرها.
بعد الحديث عن التوق إلى الاستقرار، سأنتقل إلى صلب الموضوع وأناقش مصطلح «الاستقرار الوجودي».
ما الذي أقصده بالاستقرار الوجودي؟
يتكون المصطلح من مفردتين: الاستقرار، والوجود. (والنسبة بينهما، للمُتَمنطِقين من القراء).
مفهوم الاستقرار
سأتجاوز البحث اللغوي رغم أهميته، وأدخل مباشرة في ما أقصده من مفهوم الاستقرار. مفهوم الاستقرار عندي (في سياق الحياة الفردية) متعلق بالثبات الصحي، وعدم التغير، بل وعدم احتمالية التغير نحو ما هو أسوأ. الاستقرار باختصار هو بقاء الوعي المشخَّص على حال إيجابية مزمنة، مع انتفاء احتمال التغير السلبي، تجاه أمر ما. إنه أشبه بتعريف البعض لمفهوم «السكون» الذي يقابل الحركة: بقاءٌ في مكان واحد لزمانين مختلفين دونَ تغيُّر. لكن السكون محايد قيَميًا، بينما الاستقرار يصاحبه حكم بالصواب والإيجابية. كما أنه ينافي السلبية، بل لا يترك احتمالًا للسلبية أصلًا، ويترك مساحة لاحتمال التغير الإيجابي، بالإضافة إلى كون الاستقرار ممتدًا عبر الزمن (سنوات معتَبَرة من العمر)، بينما السكون قد يكون بين ثانيتين فحسب. وللمزيد من التوضيح، سأشرع ببيان التعريف بشرح المفردات:
- البقاء: استمرار لزمانين دون انقطاع. (السكون وصف للمادة، أما البقاء يشمل المادة وغيرها، كالوعي).
- الوعي المشخَّص: أنا وأنت. الوعي الداخلي لكل منا. والمقصود هو منظور الشخص نفسه، لا منظور الآخرين من الخارج، لذا وصفته بالمشخص. أي منظور الشخص الأول Firs-person perspective.
- حال إيجابية: ذلك أن الثبات قد يتحقق على حالات سلبية غير مرغوبة، لكن المقصود هنا هو البقاء الإيجابي، ذاتيًا وموضوعيًا معًا. حال تفضّلها من داخلك، وتكون إيجابية موضوعيًا، أي تساند في النمو والتطور في جوانب متفق عليها بالعموم كالصحة الجسدية والنفسية، والتعلم، والتطور المهني، والعلاقات الصحية... إلى غير ذلك. (على فرض صحة إمكان إطلاق الأحكام الموضوعية).
- مزمنة: تمتد على مر سنين معتَبَرة من حياة المرء، لا أيامًا أو أسابيع أو شهور. هذا المعيار فيه إشكال من حيث التحديد، فمتى يكون الاستقرار مزمنًا ومتى لا يكون؟ أرى أن هناك حدًا أدنى (عتَبة Threshold) لهذا المعيار، وهو سنتين فأكثر. يترجم ذلك عمليًا بأن يكون لدى المرء تصور بثبات إيجابي لمدة سنتين على الأقل في مجال ما (مثل العمل والمال، أو العلاقات العاطفية، أو المعتقدات الفكرية، أو المسار الدراسي، أو مكان السكن، أو وضع الأبناء، أو غير ذلك).
- انتفاء احتمال التغير السلبي: المقصود هنا أن تنتفي الاحتمالية بالكامل ذهنيًا، وقريب من ذلك موضوعيًا. بمعنى يمكن أن توجَد احتمالية تغير سلبي في الحقيقة، لكنها ضئيلة إلى درجة لا تستحق الاعتبار. مثلًا: من الممكن عقلًا أن يهاجمك نيزك عشوائي ويسقطك قتيلًا، لكنك أولًا لا تفكر بهذا الاحتمال، وثانيًا لا تتصرف بناءً عليه، فلا تصحب معك درعًا فولاذيًا واقيًا وتحمله معك في كل مكان اجتنابًا لهذا الاحتمال. في المقابل، يترك انتفاء احتمال التغير السلبي مساحة لاحتمالات التغير الإيجابي، وهنا يكون الأمر تابعًا لإرادة الشخص نفسه وعمله وسعيه، إن أراد الترقي أكثر فالأمر متاح مع بذل الجهد المطلوب، وإلا فالبقاء على حال جيدة بما فيه الكفاية. تعتبر خاصية «انتفاء احتمالية التغير السلبي» مهمة للاستقرار الوجودي بعيد المدى، لأنها تزيح عن الإنسان هاجس التفكير بالعوامل المؤثرة على وجوده، وتترك له مساحةً للانطلاق والتركيز على الجوانب الإبداعية والمعطاءة عوضًا عن الغرق في معمعة الحياة اليومية والأنشطة المرتبطة بمحاولات البقاء فحسب.
- تجاه أمر ما: الاستقرار بحد ذاته صفة لابد أن تضاف لأمر ما. فهناك استقرار مالي، ومهني، وعاطفي، وفكري، وصحي، واجتماعي، بل قد توجد أنواع لا محدودة من الاستقرار: مثلًا الاستقرار في مستوى لعبة ما، أو الاستقرار في الالتزام بالروتين، أو الاستقرار في القراءة والتعلم، أو غير ذلك.
مفهوم الوجود
لننتقل إلى «الوجود». بعيدًا عن جدالات المتعقِّلين من الفلاسفة والمتكلمين حول معنى الوجود، وأحكامه، ودرجاته، ونسبته إلى الله وإلينا؛ الذي أقصده بالوجود في هذا السياق هو الخلفية النهائية لكل ما هو موجود. الإطار الأعمّ الذي يشمل كل الموجودات فردًا فردًا، من أحقرها كالذرّة والخلية والكائنات البيولوجية، إلى أعظمها كالكواكب والمجرات والثقوب السوداء والبيضاء والعوالم المتوازية وكل الممكنات، وحتى الوجود الإلهي نفسه.
إذا مثلناها بأجهزة الجوال والكمبيوتر، فالوجود هو الشاشة، والموجودات هي محتوى الشاشة. هذا التشبيه غير دقيق تمامًا، لأن الشاشة لها خلفية مادية (هاردوير) وبرمجية (سوفتوير)، وهذه وتلك لها خلفيات أخرى، كالمواد التصنيعية، والمبرمجين، وكلها لها خلفيات بدورها، وهكذا نعود إلى الخلفية النهائية لكل ما هو موجود: وهو الوجود الخالص. (بما فيه واجب الوجود).
مفهوم الاستقرار الوجودي
قلنا عن الاستقرار أنه «بقاء الوعي المشخص على حال إيجابية مزمنة، مع انتفاء احتمال التغير السلبي، تجاه أمر ما»
ووصفنا الوجود بأنه «الخلفية النهائية لجميع الموجودات»
إذا دمجنا المفهومين معًا، فسيظهر لنا مفهوم الاستقرار الوجودي بالمعنى التالي:
«مدى استقرار الخلفية النهائية لوجودي أنا كوَعْي مشخَّص»
بعبارة أخرى: مدى الثبات الإيجابي المستمر لأقوى عوامل التأثير المباشر على الخلفية الكبرى من حياتي، والتي بها يتحدد بقائي أو فنائي (أي: وجودي).
الاستقرار قد ينطبق على أي جانب من الحياة، أما إذا أضيف إليه قيد «الوجودي» فإنه ينطبق على مجموع الجوانب التي تؤثر مباشرة باستمرار بقائه حيًا.
حالات الاضطراب مقابل الاستقرار الوجودي
الحالة التي شاركتها سابقًا هي لمحة عما يمكن أن أطلق عليه «حالة الاضطراب الوجودي»: إنه اضطراب وتذبذب مزمن في جوانب جوهرية لها تأثير مباشر على وجود الإنسان أو فنائه.
تقابلها «حالة الاستقرار الوجودي»: أي استقرار طويل المدى في الجوانب الجوهرية ذات التأثير المباشر على وجود الإنسان أو فنائه.
الاستقرار الذي أعنيه هنا ليس نوعًا من الرفاه أو الترف الذي قد يخطر على البال عند ذكر التقاعد على سبيل المثال، بل نوعٌ مختلف يلامس صميم وجودي كعبدالرحمن، وصميم وجود كل إنسان. إنه بمثابة أرضية صلبة تتيح للمرء فرصة للإبداع والابتكار والمساهمة الفاعلة والازدهار وإخراج أفضل ما فيه من قدرات وإمكانات.
العوامل المؤثرة
هذه الأرضية تتكون من مجموعة من العوامل المهمة، التي بدورها قد تختلف من شخص لآخر. فهناك من يعيش في بيئات مليئة بالاضطرابات التي لا ناقة له فيها ولا جمل (كثير من أهل غزة وفلسطين والسودان على سبيل المثال)، وهناك من خرج إلى الوجود ضمن بيئة مستقرة إلى حد ما، لكن لأسباب تعود إليه، نفسيًا وفكريًا، أصبح يعيش في حالة اضطراب وجودي. هناك من تؤثر فيها العلاقات العاطفية أيما تأثير، بينما غيرها لا تكترث سوى للأوضاع المالية والمهنية، وآخر أكثر ما يمسّه الصورة الاجتماعية.
العوامل إذن يتفاوت تأثيرها خارجيًا بحسب البيئة التي يتواجد فيها كل شخص، وأيضًا بحسب أهميتها داخليًا لدى كل شخص.
أما بحسب تجربتي الشخصية، فقد كانت العوامل التالية هي الأكثر بروزًا:
- الجانب الروحي والفكري (الدين وملحقاته)
- الجانب الجغرافي
- الجانب العاطفي
- الجانب المالي والمهني
- الجانب الاجتماعي (الأصدقاء والعائلة)
- الجانب النفسي
لعلي أكتب المزيد عن كل جانب في تدوينات قادمة. (أرجو إبلاغي إن كان لديك اهتمام بذلك).
جدلية الاستقرار والتطور
قد تقدح كلمة «الاستقرار» في أذهان البعض صورةً رتيبة مملة أشبه ما تكون بحياة دار العجَزة. روتين ثابت أو شبه ثابت، مع إنتاج وإبداع صفريين. إنه أسوأ الكوابيس التي يمكن لهم تصورها. هؤلاء عادةً ما يكونون من الرأسماليين الأقحاح، أمثال أليكس هورموزي الذي يقول أنه يشعر بالجنون إن لم يعمل ليومين خلال أسبوع واحد.
وفي أذهان غيرهم؛ يعد الاستقرار الملاذ الأخير. الحالة المثالية. يوتوبيا الحياة الشخصية. قد يتخيلون أنفسهم يعيشون في قرية نائية، أو في كوخ مبني على تلٍّ أو جبل، أو في مزرعة مسالمة، أو خيمة برية وسط الصحراء.
كلا المنظورين برأيي لا يمثلان صورة واقعية عن الحياة الطيبة.
ضرورة الحد الأدنى من الاستقرار
من ناحية؛ لابد من وجود حد أدنى من الاستقرار في أي جانب من جانب الحياة لكي تتمكن من الاستمرار، فهو شرط مسبق للفعل الإنساني. إن هذا النوع من الاستقرار (الثبات الإيجابي المستمر لأقوى عوامل التأثير المباشر على الخلفية الكبرى من حياتي، والتي بها يتحدد بقائي أو فنائي) هو الحد الأدنى الذي يسمح بالتطور والترقي والانتقال للمرحلة التالية. من هنا تأتي ضرورة الاستقرار الوجودي على الجوانب الجوهرية من الحياة. لنأخذ مثالًا سريعًا على الاستثمار في الأسهم:
لابد من وجود حد أدنى من استقرار الأسواق المالية (أي وجود نمط ما فيها) لتتمكن من الاستثمار في الأسهم، وإلا لاستحال التنبؤ مطلقًا واستحالت معه ثروات كبرى نراها أمامنا مثل ثروة وارن بافيت.
وهكذا في بقية جوانب الحياة: لابد من حد أدنى من الاستقرار ليتمكن الوجود من الاستمرار.
وهو ما عبرت عنه في الثالث من فبراير لهذا العام (2024) بما يلي:
أنا
فقط
أريد أن أعيش
أريد أن أحيا
أريد أن أتَنَفَّس
أريد أن أسير بتلقائية وعفوية
أريد أن أتناغم مع محيطي
أريد أن أنمو وأزدهر
بلا عراقيل
بلا عوائق
بلا قيود
فقط
أريد أن أكون إنسانًا
أو شيئًا
أريد أن أكون
أن أوجَد
أن يكون لي موضع في هذا العالم
لا أريد ألا أكون
لا أريد أن تضيق بي الأرض
لا أريد أن أنعدم
ولا أن أُعدَم
لكل ذلك
رحلت
وسأمضي بالرحيل حتى أجدني
حتى تطمئن نفسي
حتى أشعر بالسكينة والأمان
أستمر بالترحال
يوماً بعد يوم
حتى تقرّ روحي
ويشتدّ عودي
ويقوى جسدي
ضرورة الحد الأدنى من التطور
في المقابل؛ لابد من وجود حد أدنى من التطور أيضًا. فلو أنك تملك ثروة هائلة وتركتها هكذا دونما إنماء، فستتقلص قيمتها مع مرور الزمن إلى أن تضمحلّ، وهو ما يعرف بقاعدة القيمة الزمنية للمال Time Value of Money، التي تنطبق على جوانب الصحة، والعلاقات، ومعظم جوانب الحياة.
ضرورة الاستقرار والتطور معًا
الاستقرار ضروري، والتطور ضروري. كلاهما ضروريان في مستوياتهما المناسبة. في المقابل، قد يؤدي كل منهما إلى نتائج مضرة. الاستقرار الخامل يؤدي إلى التدهور والفساد، فالزمن لا يتوقف عندما تتوقف، والعالم ينمو ويتقدم ولا ينتظر استراحتك. (تذكّر قصة الأرنب والسلحفاة). في المقابل، السعي المسعور نحو التطور بمعدل مبالغ به يؤدي إلى الاحتراق والدمار.
الحكمة تكمن في التوازن بينهما، وهذه هي نقطة «التدفق» التي تحدث عنها مؤلف كتاب «التدفق - سيكولوجية التجربة المثلى» عندما قال:
«إن أفضل لحظات الحياة عادة ما تحدث عندما يكون جسد الإنسان أو عقله ممتدًا إلى أقصى حدوده في جهد نابع عن إرادة ذاتية لإنجاز مهمة صعبة تستحق الجهد المبذول. هذه الحقيقة تخالف النظرة الشائعة بأن أفضل اللحظات هي تلك الأوقات المريحة، الاستقبالية، التي نتلقى فيها الأمور بسلبية - مع من أن مثل هذه التجارب يمكن أن تكون مبهجةً أيضًا إذا عملنا بجد واجتهاد لتحقيقها»
خاتمة
في هذه التدوينة استعرضت مسألة الاستقرار الوجودي بأبعاد متنوعة، بدأت بالتوق إلى الاستقرار، ثم التفسير التطوري، فالمفاهيم الفلسفية للاستقرار والوجود والاستقرار الوجودي، ثم جدلية الاستقرار والتطور.
أدرك أن هذه التدوينة نظرية بالدرجة الأولى. لم أذكر «كيف» يمكنك معالجة حالة الاضطراب الوجودي في حياتك، ولا الخطوات العملية لتعزيز الاستقرار الوجودي فيها. ليس هذا مقصودي حاليًا. ما أريده الآن هو إثارة الفكر والحوار حول هذا المفهوم، وتسليط الضوء عليه، لعل ذلك يكون محفزًا لمزيد من البحث، الذي بدوره قد يوصل إلى نتائج عملية مفيدة ومؤثرة في الحياة الواقعية.
وإذا كنت ممن يلحّون على طلب الخطوات العملية، هاك خطوةً أولى مساعدة:
تقبل الاضطراب
(أو شيئًا منه على الأقل)
فالحياة بحد ذاتها، وفي جوهرها، غير مستقرة. ينطبق ذلك على كل منا كأفراد، ومجتمعات، ونوع بشري، وكذلك على بقية الكائنات الحية، وأبعد من ذلك: على النجوم والكواكب والمجرات، والوجود بأسره. فالوجود يحمل اضطرابًا في صميم تكوينه. حتى أصغر الذرات لا يهدأ لها بال، وهي في حركة مستمرة.
الاستقرار الوجودي يشكّل البنية التحتية والقاعدة الضرورية لعيش حياة طيبة ذات معنى، وهو موضوع سأناقشه في تدوينة قادمة.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.