لماذا؟
جدول المحتويات
كُتبت في 2 مايو 2020
اعتدتُ قبل أن أبدأ أي مشروع، أو أتخذ أي قرار كبير في حياتي، أن أعود إلى الأصل فأسأل: لماذا أفعل ما أفعل؟
اكتسبتُ هذه العادة تأثُّرًا بالمتحدث الشهير سايمون سينيك الذي ألف كتابًا بعنوان “Start with Why” «ابدأ بـ لماذا»، إلا أن تأثري لم يكن بالكتاب -الذي لم أقرأه بالمناسبة- وإنما بحديثه المتداول على منصة «تيد». هنا النسخة المختصرة:
قد تبدو هذه العادة رائعة للكثيرين، بل إنها مطلوبة وواجبة عند البعض. فكيف يتخذ «الإنسان العقلاني» أفعالًا بلا أهداف واضحة؟ ما هي «العقلانية» سوى تحديد الأهداف، يتبعها تقييمٌ للبدائل المتاحة، ومن ثم اختيار وتنفيذ الأفضل من بينها؟
وبالتالي، لابد لكل فعل من تبرير يربطه بهدف معين. كيف نصل إلى هذا التبرير؟ بطرح السؤال الكبير: لماذا.
لنأخذ الحالة التالية على سبيل المثال:
«خالد» يعمل كمهندس كهربائي في منظمة عالمية عملاقة. عرض عليه صديقه «إبراهيم» أن يستقيل من الوظيفة ويدخل معه في شراكة لكي ينشآ مشروعًا خاصًا. إبراهيم رائد أعمال مخضرم أنشأ 3 مشاريع سابقة وكلها كانت من أنجح المشاريع الرائدة في المنطقة، وقد باع كل واحد منها بأكثر من 10 ملايين دولار على الأقل. فالعرض يبدو مغرياً.
وبما أن خالد متقن لأسلوب اتخاذ القرار العقلاني، فقد مرّ بعملية التفكير التالية:
١- ما هو الوضع الحالي، وما هي أهدافي؟
أنا أعمل في شركة عالمية، براتب محترم. ولكن صديقي إبراهيم عرض علي الاستقالة والدخول معه في شراكة بمشروع خاص.
لماذا أعمل من الأساس؟
- لكي أكسب مالاً يتيح لي عيش حياة كريمة.
- ولكي أطلق قدراتي ومواهبي فيما يفيد الناس.
٢- ما هي البدائل المتاحة لدي؟
الخيار الأول: أرفض العرض وأستمر في العمل والترقي في السلم الوظيفي إلى أن أتقاعد.
الخيار الثاني: أقبل العرض وأستقيل من وظيفتي وأدخل بالشراكة مع صديقي إبراهيم.
الخيار الثالث: أقبل العرض وأدخل في شراكة ولكن دون الاستقالة من الوظيفة. أستمر بهذا الأمر إلى أن يكبر المشروع ويثبت نجاحه.
قيَّم خالد كل بديل، وتوصل إلى أن الخيار الثالث سيتيح له تحقيق أهدافه بأكبر قدر ممكن، لأنه سيتيح له كسب مال أكثر مع إطلاق قدراته ومواهبه الكاملة بالمقارنة مع محدودية ذلك في الشركة العالمية.
كان هذا مثالاً سريعاً على عملية اتخاذ القرار العقلاني.
قد يتشعب الأمر أكثر عندما يصاب المرء بِوَرَمٍ سرطاني في خلايا التساؤل، فيَصِل به الأمر إلى إعادة السؤال «لماذا» مرة أخرى: «حسنًا، هذه إجابة واضحة. ولكن، مع ذلك، لماذا أريد أن أكسب مالًا وأطلق قدراتي ومواهبي؟» ويستمر في سلسلة من التساؤلات إلى أن يصل إلى «المحرك الأول»، فيعيد جميع أفعاله إلى «غاية الغايات»، وتصبح هذه الغاية نصب عينيه وأذنيه ولسانه وشفتيه، ويستحضرها في كل فعل من أفعال حياته (أو لا يصل إلى أي جواب ويستمر بالدوران إلى أن يدوخ ويخرج من الدوامة إلى أقرب مخرج مضطرًا).
إنه سؤال المعنى النهائي، الذي ينشد الغاية الكبرى من كل هذا الوجود، ليصل بالمرء إلى تناسق منطقي متكامل في تبرير أفعاله وتوجيهها نحو تحقيق «غاية الغايات».
يبدو الأمر مثالياً، أليس كذلك؟ هو فعلاً كذلك في عقل من يحمل غايةً كبرى، ولكن الواقع يقول غير ذلك:
أولًا: عقل الإنسان المحدود لا يتسع لاستيعاب فضاء الوجود اللامتناهي. فكيف يصل عقل محدود إلى «غاية غايات» كونية ويربطها بـ«غاية غايات» شخصية؟
وثانيًا: الإنسان كائن معقد جدًا، له أبعاد متعددة، ولا يمكن رد جميع الأفعال والتصرفات والأفكار إلى «العقلانية». فهناك العامل النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والبيولوجي، والبيئي… وغيرها من الأبعاد التي توجه سلوكيات وأفكار ومشاعر الكائن البشري. فعندما يتوصل المرء إلى «غاية الغايات» فهو في الواقع متأثر بكل تلك العوامل، وإن توهم بتوصله إليها بالعقل وحده.
ثالثًا: عندما يضع المرء «غايةً كبرى» لحياته فإنه يخاطر بحياته كاملة، لأنه قد يغير رأيه فيما بعد. وهذا ما حصل معي عندما حلت بي أزمة وجودية كبرى. جميع أفعالي وأفكاري وأقوالي ومشاعري السابقة كانت لأجل غاية الغايات، ولكن بعد تحطم الأساس؛ أصبحت كل أفعالي وأفكاري وأقوالي ومشاعري السابقة بلا معنى. بعبارة أخرى: أصبحت حياتي خالية من رصيد المعنى، أو هكذا تصورت الأمر في ذلك الوقت.
هل الحل -إذًا، أو إذن- هو أن نتخلى تمامًا عن تحديد الغايات الكبرى في حياتنا، ونترك الظروف والحياة تسير بنا كما تسير السحب؟ إذا أخذنا بهذا الرأي المتطرف، سنقع عرضة للمقولة الشهيرة «إن لم تسيّر حياتك لتحقيق أهدافك فإن غيرك سوف يسيّرك لتحقيق أهدافه».
بالتأكيد، لا توجد إجابة واضحة. لكن بعد التعلم من عدد من التجارب، وجدت الفائدة فيما يأتي:
أولًا: الاعتراف بمحدودية العقل، والتجربة البشرية، واستيعاب ذلك بقدر من التواضع. من يعتقد ذلك فعلًا سيدرك في قرارة نفسه مع كل مرة يسقط فيها في شباك «الغاية الكبرى» أن تصوره لهذه الغاية يجب ألا يكون مطلقًا لمحدودية إدراكه، وأنه قابل للتغير في أي لحظة. لا مشكلة، حدد غاية كبرى لحياتك، لكن لا تأخذها بجدية أكبر من اللازم. وكما يقول أحدهم: Strong opinions, weakly held. - آراء قوية، متبنّاة بخفّة.
ثانيًا: بما أن الإنسان كائن متعدد الأبعاد، علينا أن نلبي احتياجات أنفسنا في كافة الأبعاد بقدر المستطاع.
لكلٍّ منا أدوار متعددة هي بمثابة شخصيات داخلية. فهناك الحكيم واللعوب والطفل المدلل والبطل المصلح والذكي المحترف والمبدع ووو…
فإذا وضعت «غاية كبرى» تقصي جميع الأدوار وتركز تمامًا على دور واحد، فقد حكمت على نفسك بالمعاناة، لأن شخصياتك الداخلية ستخرج وتصرخ وتحتجّ على حكمك الجائر، وستطالب بحقوقها كما تطالب أقلياتٌ مظلومة أو شعوب مستبدَّة. عندها ستعم الفوضى في دولة ذاتك، وستصبح نفسك في حال «حرب الكل في الكل» كما يصف هوبز المجتمعات «البدائية» ما قبل الدولة.
باختصار: وازن بين مختلف احتياجاتك البشرية.
ثالثًا: يقول خبراء الاستثمار: لا تضع كل بيضك في سلة واحدة، بمعنى لا تستثمر كل أموالك في مكان واحد، بل نوّع بأكبر قدر ممكن في محفظتك الاستثمارية. كذلك في الغاية: لا تجعل حياتك كلها تابعة لغاية واحدة، بل نوّع في أهداف الحياة حتى لا تمر بتجربة مشابهة لما مررت به وذكرته مسبقاً.
رابعًا وأخيرًا -وهي نقطة تابعة للأولى- : بدلاً من اتخاذ «غاية حياة»، تعامل معها على أنها «غاية مرحلة». أي حدد غاية كبرى ولكن كن مدركاً أن هذه الغاية تتناسب مع مرحلتك الحالية في الحياة، وأنها -في الغالب- ستتغير في مرحلة لاحقة بعد فترة، قصيرة كانت أو طويلة.
أتمنى أن تجد فيما قرأت -إن قرأت- شيئاً من الإلهام.
سؤالي لك: هل لديك «غاية كبرى» في حياتك؟ وهل تفكر بالموضوع باستمرار، أم أنك تستقبل الحياة بحسب ظروفها؟ أو لا هذا ولا ذاك؟
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.