وأخيرًا!
جدول المحتويات
مدونة تجمع بين البساطة والأناقة، أستطيع الكتابة فيها والنشر بكل أريحية، دون القلق حيال أمور تقنية أو مظهرية أو إجرائية أو أيٍّ من ذلك الهراء.
منصات المواقع العالمية ومشكلاتها
قد يبدو الأمر تافهًا في بداية الأمر، إلا أن إنشاء مدونة أنيقة تتوافق مع الكتابة العربية ليس بالأمر السهل على الإطلاق. الأغلب يتوجهون أولًا إلى ووردبريس، غيرهم يستخدمون منصة بلوجر، وآخرون يفضلون منصات أكثر عصرية مثل وِكس (الشركة الإسرائيلية التي يقع مقر أعمالها في تل أبيب) أو سكويرسبيس أو أودوو أو هوستنجر أو غيرها من المنصات العالمية. جل المنصات المذكورة (باستثناء بلوجر و ووردبريس) صممت بالأساس لإنشاء المواقع الإلكترونية العامة، لا المدونات الشخصية، وهنا الإشكالية. فالمدونات الشخصية لها احتياجاتها ومتطلباتها الخاصة التي تختلف بدورها عن المواقع التجارية أو التعليمية وغيرها. المدوِّن ينشد أقصى قدر من البساطة. هو يريد أن يكتب فحسب. أن يرمي أفكاره الخام ويلتقطها كما هي قبل أن تفرّ من محيط وعيه وأنامله. وفي الوقت نفسه، يريد لها أن تظهر بحلة تليق بها. (أو هذا ما أريد لأفكاري على الأقل). هذه المتطلبات تُترجَم تقنيًا وإجرائيًا إلى الإدارة الداخلية للموقع، طريقة عرض الصفحات وتنسيقها، أنواع وأحجام وألوان الخطوط، ظهور الوسائط، والمعضلة الكبرى في سياقنا العربي: توجُّه النصوص ومحاذاتها، أي من اليمين إلى اليسار بدلًا من العكس.
هذه المتطلبات لا تتوفر بسهولة في أغلب المنصات المذكورة آنفًا.
أيضًا هناك مسائل تتعلق بالجمهور المتلقي للمدونات. في المنصات المذكورة؛ لابد من الاشتراك بخدمة رسائل بريدية مستقلة عن المنصة نفسها لإرسال الرسائل البريدية، وهذا أمر يقلل البساطة المرجوة ويضيف درجة من التعقيد إلى نظام التدوين. تتكرر المسألة في بعض وسائل تربيح المدونة (Monetization). من الصعب إدراج خاصية اشتراك عضوية مثلًا، أو بيع منتجات رقمية، أو غير ذلك من الوسائل المدرة للربح.
بطبيعة الحال، يمكن التغلب على كل الإشكالات السابقة (وهذا حاصل في الكثير من المدونات العربية)، إلا أن الأمر يلزم وجود خلفية مهارية في تطوير الويب (html/css...) أو موارد مالية لتعيين شخص متمكن فيها لتأدية المهمة، أو الرضا بمظهر ركيك ينحدر بالمدونة إلى مستوى المواقع الوهمية. (وهذا يغلب على المدونات العربية بحسب ملاحظاتي الشخصية).
ظهور منصات التدوين المتخصصة
مؤخرًا ظهرت منصات متخصصة في التدوين تواكب التطورات الرقمية والاقتصادية وتراعي احتياجات «سوق التدوين» أكثر من سابقاتها. أولها منصة ميديم، التي ابتكرت نموذجًا ذكيًا يعتمد على اشتراكات القراء المباشرة عوضًا عن دولارات المعلِنين كما هو الحال في منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم يتحول جزء من تلك الاشتراكات كمدخولات للكتّاب. هذه المنصة متداولة بكثرة في مجتمعات المبرمجين والتقنيّين، ولا تخلو من محتويات وفئات غير تقنية. ظهرت بعدها منصة غوست، وهي منصة غير ربحية متخصصة في التدوين ومفتوحة المصدر، تحت منظمة غوست الخيرية (Ghost Foundation)، التي تهدف إلى دعم الكتّاب والصحفيين المستقلين حول العالم. سبستاك هي آخر المنصات التي سأستعرضها الآن، وهي أداة تجمع بين التدوين والنشرات البريدية، مع إتاحة خصائص مساعدة للاشتراكات والتحليلات وغيرها.
جميع المنصات المذكورة، المتخصصة في التدوين منها وغير المتخصصة، الحديثة والعريقة، لا توفر السلاسة نفسها للمستخدم العربي، لا من حيث النشر، ولا حتى القراءة. هي موجهة بالدرجة الأولى لمتحدثي الإنجليزية، وبالدرجة الثانية لمتحدثي لغات أخرى مقاربة كالألمانية والفرنسية والإسبانية، والأكثر تقدمًا منها ستخدم بعض اللغات الأبعد كالروسية أو الهندية أو التركية أو غيرها، ولكن ليس العربية. أتفهم ذلك للأمانة، ولا أتحدث عن هذه الحقائق تذمرًا من مقدمي الخدمات في هذا الصدد. فالسوق العربية، من منظور تجاري بحت، ليست جاذبة بالمقارنة مع أسواق أخرى جدواها الاقتصادية قد تفوق السوق العربي بأضعاف مضاعفة، فلماذا يكترث رائد أعمال طموح في السيليكون فالي، غايته الكبرى تعظيم الأرباح وبناء اليونيكورن القادمة، بجمهور عربي يعيش في الطرف الآخر من الكوكب، جل ما يعرف عنه عبارة عن معلومات مستوحاة من فولكلور استشراقي في الأفلام والمسلسلات الكلاسيكية، أو تنميطات سطحية من القنوات الإخبارية؟ لماذا يكترث بالتفكير بهذا الجمهور أصلًا، فضلًا عن دراسة الجدوى، فضلًا عن الدخول إلى هذا السوق المليء بالفوضى والاضطراب؟ الأمر بالنسبة إليه، بحساب ذهني سريع (قبل حساب الورقة والقلم)، لا يستحق البحث.
فلنترك رواد أعمال السيليكون فالي جانبًا، ولنلقِ نظرة على مشهد التدوين الشخصي في عالمنا العربي اليوم.
المشهد العربي
انطلقت فكرة المدونات الرقمية، كأغلب الوسائل والتقنيات الحديثة، من سياقات أمريكية وأوروبية (لا أفضل مصطلح «الغرب/غربي» لأسباب يطول شرحها). لذا، من الطبيعي أن ينطلق ذهن المدون العربي إلى المنصات الرائدة في المجال عالميًا. تُعد المنصتان «ووردبريس» و «بلوجر» الأكثر انتشارًا في التدوين الشخصي عربيًا بحسب ملاحظتي، تأتي بعدها منصات إنشاء المواقع المذكورة آنفًا. المشكلة في هذه المنصات أنها عالية الصيانة (High Maintenance) - أي تتطلب الكثير من الوقت والجهد والمهارة أو المال لتخرج بمظهر لائق يقبل الانتشار الواسع. هناك من يكتفي بأقل القليل ولا ينشغل كثيرًا بالمظهر رغم قوة وروعة الأفكار المطروحة (أمثلة سريعة: النبوي يوسف - شروقاندا)، وهناك من تقدموا خطوة في استخدام ووردبريس من حيث التنسيق (مفازة - مدونة عبدالله الوهيبي)، وهناك من أخذوا الأمور إلى مستوى متقدم (أفكار خارج السياق - مترين في متر - مدونة إبراهيم الرخيمي).
ماذا عن منصات التدوين العربية؟
هناك مواقع تتيح التدوين تحت مظلتها (مثل أراجيك - كرميلا [المنصة غير فعالة منذ حوالي سنتين] - رقيم [يبدو أنه أُغلق] - مقال كلاود - مدونات الجزيرة - موضوع)، وهناك مواقع متخصصة في نشر المقالات المستقلة (مثل رصيف22 - منشور - مجلة الفراتس - مقالات ثمانية)، لكن نطاق التدوين الشخصي يختلف عن هذه وتلك. توجد تبعات كثيرة للنشر تحت مظلة جهة أخرى، منها مثلًا أنك ستخضع إلى «إشراف» شخص أو جهة ما والحصول على موافقتها قبل النشر. لا أمانع ذلك بالمطلق، فقد أكتب مقالة رصينة أو بحثًا علميًا مضبوطًا في فترة من الفترات. لكن عندما أدون شخصيًا، فإني أنشد الكتابة الحرة. أن أكتب عما أريد، كما أريد، وفي الوقت الذي أريد. قد أقرر الكتابة بالفصحى، وممكن فجأة أقلبها سواليف عامية. I can even decide to write in a different language. الكتابة الحرة لا تتقيد بضوابط النشر. أنا المتحكم الأول والأخير هنا.
إضافةً لذلك، النشر مع جهة ما سيجعل اسمك مرتبطًا بها وبتوجهاتها، وهذا الأمر قد يعرضك للخطر، خاصة في ظل التذبذبات السياسية والحملات البوليسية التي نشهدها في العالم، وفي منطقتنا على وجه الخصوص.
توجد منصات عربية أخرى تقدم حلولًا بديلة، إلا أنها تلفيقية.
منصة ويلت توفر قوالب جيدة لبناء وتصميم المواقع التعريفية، لكنها لا تصلح للمدونات. فلكي تنشر تدوينة واحدة، عليك إنشاء صفحة ثابتة (Static) وإضافة العناصر المطلوبة من القوالب الجاهزة (عنوان مع صورة - النص) ثم الكتابة ونشر الصفحة، ثم إضافة رابط وصورة التدوينة إلى الصفحة الرئيسة يدويًا، وهكذا مع كل تدوينة. العجيب أن موقع الشركة نفسه يحتوي على مدونة، ولكنهم قاموا ببرمجتها فرديًا لهم فحسب. تواصلت مع الفريق وطلبت إنشاء مدونة مشابهة لي، لكنهم اعتذروا عن ذلك واقترحوا عليّ اتباع الطريقة التي ذكرتها في البداية.
منصة هدهد هي البديل العربي الموازي لـ سبستاك، تتخصص في النشرات البريدية التي يمكن أن تُحفظ في صفحة أرشيف واحدة وكأنها مدونة. التنسيق أنيق، الاستخدام سهل وسلِس، الأسعار معقولة، إلا أن هناك فروقًا مهمة بين المدونة والنشرة، منها القدرة على التعديل بعد النشر، ووجود الصفحات المتعددة، وغيرها من الخصائص.
منصة مساق توفر حلًا متكاملًا لمشاريع المنتجات الرقمية (مثل الكورسات والكتب الرقمية). المدونة تأتي كميزة جانبية للنظام، لكن يمكن استخدام المنصة بأكملها للتدوين فحسب. هذا ما فعلته عندما أنشأت موقع الإحسان الفعال. ما المشكلة إذن؟ أولًا، لابد من إضافة تعديلات برمجية لإزالة أيقونات سلة الشراء وتسجيل الدخول وغيرها من الأمور. ثانيًا، السعر مرتفع جدًا مقارنة بالحلول الأخرى (بعضها مجانية أو شبه مجانية). لا توجد باقة مجانية بالكامل في مساق. هناك تجربة مجانية لمدة أسبوعين، وبعدها تبدأ الأسعار الشهرية من 145 ريال وحتى 819 ريال (بتاريخ نشر التدوينة)، وهذه الباقة الأخيرة هي المطلوبة لتثبيت التعديلات البرمجية. تواصلت مع الفريق وطلبت تخفيض السعر لموقع الإحسان الفعال بما أنه موقع لنشر المقالات فحسب دون استخدام الخصائص الأخرى (ولأنه مشروع غير ربحي) فتجاوبوا معي وخصموا أكثر من نصف المبلغ. مع ذلك، يبقى السعر مرتفعًا برأيي.
هناك ملاحظة أخرى أكثر جذريةً وأهميةً تنطبق على كل المنصات العربية، ألا وهي انسداد الحرية.
منصة اكتب مثلًا تعتبر حلًا مثاليًا من ناحية تقنيّة. فهي مصممة بأسلوب تبسيطي سهل وسلس يجعلك تنسى كل شيء آخر وتركز على جوهر الكتابة. إنها تقول لك «اكتب» فحسب، على غرار شعار علامة نايكي «Just do it». عندما وقعت عليها قلت في نفسي «وجدتها!» كما قال أرخميدس، أو هكذا ظننت في البداية. لكن بمجرد اطلاعي على شروط الكتابة، اكتشفت أنني وقعت على وهم. فالشروط مصاغة بلهجة سلطوية تحوي عبارات فضفاضة نألفها من قبيل «يمنع نشر المقالات المخالفة للأخلاق العامة في العالم العربي» وغيرها من البنود الفجة. كذلك الأمر في منصة مقال كلاود التي تصرح في مقدمة قانون النشر لديها وبالخط العريض بأن «هناك مواقع على الإنترنيت بدون قواعد نشر، منصة مقال كلاود ليست واحدة منها». منصة مقال كلاود رديئة الجودة، مع ذلك يمكن لرداءة الجودة أن تعوَّض بأمور أخرى. لكن عندما قرأت تلك العبارة وما تلاها من بنود تسلطية، سمعت نفسي تقول No thanks, I'll pass.
وحتى لو ادعت المنصات العربية دعمها الكامل للكتّاب المستقلين ولحرية الفكر والتعبير، فلن آخذ ادعاءاتها على محمل الجد، إلا في حال تواجد مقرها الرئيس في بقعة جغرافية تضمن ذلك قانونيًا وواقعيًا، وهذا بالتأكيد لابد أن يكون خارج الدول العربية.
من هنا أوجه دعوة صادقة إلى من يملكون الموارد المتاحة في المال والوقت والجهد والعلاقات من أبناء أوطان العرب، بسد هذه الثغرة والعمل على إنشاء حل سلس للكتابة العربية المستقلة المتاحة للجميع. إذ أن من كان على مقربة من السوق وفهم احتياجاته ينبغي أن يكون مؤهلًا لإيجاد حلول تلبي تلك الاحتياجات، وبهذا تتوفر فرصة مغرية لتحقيق الأرباح وبناء الثروات. هذا من جانب اقتصادي بحت، فضلًا عن الجانب الرسالي المتمثل في دعم الكتابة المستقلة والأقلام الحرة والأفكار الأصيلة لأفرادِ هذا المحيط المترابط جغرافيًا وثقافيًا، والمتجذر بعمق تاريخيًا، كمساهمة فارقة في مسيرة الحلم العربي المتمثل في بناء مجتمعات أكثر وعيًا وحرية واستقرارًا وتوافقًا وسلامًا وتقدمًا على جميع المستويات، الاقتصادية والسياسية والتقنية والاجتماعية والمعرفية والنفسية والروحية، ولا أعفي نفسي من هذه الـمَهمة الـمُهمة.
الخلاصة: حتى الآن لم أجد حلًا عربيًا شافيًا يوازي سلاسة التدوين باللغة الإنجليزية، مع الأسف. إذا كانت لديك مقترحات لم تُذكر في هذا المنشور، أرجو منك -كرمًا- مشاركتها في التعليقات في الأسفل.
تجربتي
بعد البحث والتجارب المتعددة بين مختلف المنصات العالمية والعربية، بدأت أتساءل: هل أطلب المستحيل؟ هل متطلباتي عسيرة إلى هذه الدرجة؟ كل ما أريده هو الكتابة والنشر. أريد للأفكار التي تدور داخل رأسي، والمشاعر التي تعشعش في قلبي، أن تجد لها مستودعًا آخر يمكن أن أشاركه مع الناس من حولي. وهذا ما أراه متاحًا أمامي وبكل سهولة ويُسر باللغة الإنجليزية. فهل أطلب المستحيل عندما أتوقع خدمة بمستوى مساوٍ أو مقارب باللغة العربية؟ لا أظن ذلك.
تأملت كثيرًا في وعد شركة ثمانية بإنشاء «أفضل تجربة كتابة وقراءة عرفها الإنترنت، بالعربيّة.» إلا أن مسألة حرية التعبير تلوح في الأفق من جديد. فكرت بالنشر مع مجلة الفراتس، أو رصيف22، أو منشور، أو غيرها من المنابر العربية المستقلة، لكن ليس هذا ما أريد حقيقةً. ما أريده على وجه الخصوص هو مساحة شخصية حرة، للكتابة الحرة، بتجربة سلسة، ومظهر أنيق، بأفكاري يليق.
قد أتخذ هذه «المعايير العالية» والمتطلبات الصعبة كأعذار وهمية للتخبي وعدم النشر والظهور ومشاركة الأفكار على العلَن. ربما، هذا تفسير محتمل. وسواء أخذنا بهذا التفسير أم سرنا مع التفسير الظاهري بأنني لم أجد حلًا مريحًا حتى الآن؛ فقد قررت البداية على أية حال، لأنني لم أستطع إلا أن أكتب وأنشر. وبالرغم من أن المدونة الحالية لا ترتقي إلى المستوى المثالي، إلا أنها قطعًا تفي بالغرض.
ما الذي فعلته بالتحديد؟
رأيت مدونة فؤاد الفرحان، ومدونة الكاتب أحمد حسن مشرف، ووجدت أنهما يستعملان الأدوات والقوالب نفسها، فقررت تقليدهما. إن كان لديك فضول عن التفاصيل، إليك الحل: منصة Ghost للكتابة المستقلة، بقالب Ubud من Aspire Themes. ولكن للتنبيه: لابد من وجود قدر من الفهم في تطوير الويب (html و css). في البداية ظننت أن الأمر لا يتطلب ذلك، لأنني علّقت على تغريدة لفؤاد على تويتر وطلبت منه مشاركتي التفاصيل، فردّ بنفس المعلومة المذكورة أسفل مدونته ولم يزودني بتفاصيل إضافية. اشتريت قالب Ubud على عجالة ظنًا أن الأمر لا يتطلب الكثير، واكتشفت لاحقًا أن الأمر ليس كذلك. كنت أبحث عن حلٍّ يعفيني من هذه المشقّة، لكن لم أملك إلا أن أشمر عن ساعديّ وأوسخ يديّ بالأكواد مستعينًا بأساسيات تعلمتها منذ سنوات (2016 - 2017) ومعاونة خوارزميات الذكاء الاصطناعي في ChatGPT، وساعات من التجارب والتعديلات، إلى أن صارت المدونة بهذه الحلة. وهذا درس إضافي يؤكد ما تعلمته وأتعلمه يومًا بعد يوم: لا تتجنب المهام الجوهرية. تريد مدونة عربية أنيقة؟ لا مفرّ من العمل على تعديل التفاصيل التافهة عبر css. تريد علاقة صحية مع الأهل؟ لا مفرّ من التواصل بالرسائل والمكالمات التي تعتبرها عابرة وغير فارقة. تريد قوة جسدية؟ لا مفرّ من التمرين. وكما عبّر لاعب كمالات الأجسام أبو ربيعة: «تبي الذهب؟ لازم تتعب».
بعد المحاضرة العصماء في تطوير الذات، لننتقل إلى جانب آخر مهم، وبعدها نختم التدوينة الأولى.
لماذا أريد الكتابة في «مدونة» بالذات وبشدة؟
سأبدأ بالحديث حول الكتابة المطوّلة، ومن ثم سأناقش سبب تفضيلي للتدوين بالتحديد.
عن الكتابة المطولة
فيما يخص الكتابة المطولة، سبق وأن كتبت رسالة إلى حساب رقمي -لا أستطيع إطلاق لقب «الصديقة» عليها، لأننا لا نعرف بعضنا ولم نصل إلى مستوى الصداقة ولا حتى المعرفة الشخصية- تناقش أسلوب التواصل بالرسائل المطولة مقارنة بالتواصل السريع. ينطبق جل ما ذكرته عن الرسائل المطولة على التدوينات وغيرها من الكتابات المطولة، كالمنشورات البريدية والمقالات وحتى الكتب. سأقتبس الجزء المتعلق بهذه المسألة هنا:
يختلف نمط التّكَاتُب المباشر (texting) عن كتابة الرسائل المطوّلة في أكثر من جانب. أولاً: التكاتب تواصلي في أغلبه، أما الرسائل فقد تكون تواصلية أو تعبيرية أو الاثنين معاً. ثانياً: «المطوّلة» هي الكلمة الأخصّ التي بها تتميز الرسائل عن التكاتب، وهي تأخذنا إلى مسألة أخرى ذات أهمية كبرى: التركيز والانتباه.
نعيش اليوم تطبيعاً غير مسبوق للتشتت وضعف الانتباه والتركيز. القوى العظمى في هذا العصر (الشركات التقنيّة الكبرى) تتسابق وتتصارع لسحب أكبر قدر ممكن من تركيز كل فرد حيّ على هذا الكوكب. مليارات الدولارات تُصرف وأخبر الخبراء يُستقطبون لتحقيق نتائج من قبيل: جلب أكبر عدد من المستخدمين للتطبيق (customer acquisition)، إطالة مدة استخدام التطبيق، زيادة المشاهدات، وغيرها من المعايير التي تصب في سبيل تعظيم الثروة الشخصية للمُلّاك والمستثمرين. تويتر، تيك توك، انستغرام، سنابتشات، يوتيوب، فيسبوك… كلها لا تكترث كثيراً لنوع المحتوى المُشاهَد بقدر اهتمامها بالحفاظ على تحقيق النتائج المذكورة أعلاه، والتي تقود إليها المحتويات القصيرة والسطحية بتفوق هائل عوضاً عن المحتويات الطويلة والعميقة. سأقترح كتابان ووثائقيان في هذا الخصوص.
الكتابان:
The Shallows (السطحيون): How the internet is changing the way we read, think, and remember.
Deep Work (العمل العميق): Rules for focused success in a distracted world.
في هذا الكتاب يتحدث المؤلف عن علاقة العُمق بالقيمة، وعلاقتهما بالتركيز والانتباه. فالأعمال القيّمة عبر التاريخ تمت بعد الوصول إلى نقطة عميقة من الانتباه المركَّز على أمرٍ ما (منحوتة - لوحة فنية - كتاب - اختراع…) وهذه النقطة أصبحت بعيدة المنال في عالم الهواتف الذكية والتطبيقات الاجتماعية.
الوثائقيان (متاحان على نتفلكس)
The Great Hack: يتحدث عن إمكانات التأثير عبر السوشال ميديا على سلوكيات الناس عموماً، وعلى الانتخابات الأمريكية خصوصاً، وكيف تلاعب ترامب وحزبه بوَعي الناخبين الأمريكان للتصويت لهم في الحملة السابقة.
The Social Dilemma: يستعرض نموذج عمل وسائل التواصل الاجتماعي وكيف تربح من انتباه الناس، ويحتوي على مقابلات مع موظفين سابقين في فيسبوك وقوقل وغيرها من الشركات التقنيّة.
الانتباه (Attention) هو القائد الأول لمركبة وعي الإنسان، أينما وُجِّه توجَّه وعيُه، وبالتالي توجهت حياته. هذا ما طرحه المستنير سدهارتا (البوذا) منذ آلاف السنين، واقترح من أجله تقنية الميديتيشن كوسيلة لإعادة ضبط الانتباه وجعله خاضعاً للإرادة الذاتية.
ثالثاً: تبعاً للنقطة السابقة؛ تتيح الرسائل المطوّلة مساحةً للحَفْر في أعماق فكرةٍ أو شعورٍ أو موقفٍ ما، وذلك لوجود مساحة في الوقت والذهن للتعرف على المعاني التي تجول في النفس أولاً، وإيجاد ألفاظٍ وعبارات مناسبة للتعبير عنها ثانياً، ومراجعتها وتنقيحها ثالثاً. هذه المساحة متاحة هنا في شقّي التعمُّق العمودي والتبحُّر الأفُقي، وبهذا تُحمَل المعاني المُراد إيصالها بأوضح مما هي عليه بكثير في حال التكاتب المباشر.
ملحوظة: حديثي عن الرسائل المطوّلة في سياق المدح لا يلغي أهمية وفائدة التكاتب والحوار المباشر. هي أنماط مختلفة للتواصل، وكل منهما له مزاياه وعيوبه.
انتهى الاقتباس.
أُضيف إليه نقطة أخرى مهمة، وهي أن الكتابات المطولة يفترض أن يتضح معها السياق الكامل للفكرة، مما يتيح للمتلقي فهمًا أوسع ومساحة أكبر ووقتًا أطول لاستيعاب وفهم المراد بهدوء واتزان، بعكس الكتابات القصيرة التي تأتي مجتَزَأة من سياقاتها، وكثيرًا ما يأخذها المتلقي بتحيز مسبق قد يصاحبه انفعال يضخم الأمور إما للأسوأ أو الأفضل. هذه آليات لاواعية لدينا كبشر، بغض النظر عن مستوى التعليم والذكاء وغير ذلك، إلا أنه يمكن تهذيبها بضبط الذات وتطوير الصفات الشخصية الإيجابية.
في عشق المدونات
تتميز المدونات عن غيرها من الكتابات المطولة (مثل النشرات البريدية والمقالات والرسائل والكتب) بصفة نتوق إليها كثيرًا (أو بعضنا على الأقل)، ألا وهي الحرية. لا تفترض المدونة نمطًا معينًا من الكتابة، ولا شروط نشر، ولا مناهج بحث، ولا تدقيقًا في المصادر، ولا الالتزام بمواضيع محددة، ولا الموضوعية، ولا غير ذلك. المدونة صفحة بيضاء. لوحة فارغة تدعوك لملئها بنقراتك على لوحة المفاتيح. غرفة خاصة تؤثثها بما تريد، وكما تريد. المدونة تعطيني فرصة لأخلق مساحة خاصة بي. كوكبًا كاملًا باسمي. فضاء بملكية خاصة تعود لي. تمدني بشعور الخلق، فأنا فيها خالقٌ من عدم. أخلق حروفًا وكلمات وجمل وحكايات. أخلق أفكارًا لا مثيل لها، وأعيد إحياء ذكريات ماتت من سنين. إن الكتابة الحرة تجعلني، بصورة ما، أمارس دور الإله، وبهذا تقرّبني منه أكثر.
بطبيعة الحال، مع الحرية تأتي المسؤولية. أنت المسؤول الأول والأخير عن إظهار بضاعتك، أنت القائد لمؤسسة فكرك، وأنت الذي تحدد ما تود مشاركته مع العالم ونشره على الملأ. هذه المسؤولية ليست هينة، لكني مستعد لتحملها بصدر رحب.
أحب المدونات (الشخصية بالخصوص)، وأراها قريبة إلى قلبي لعدة أسباب: منها أنها عادةً ما تكون صادقة، أصيلة، بعيدة عن التصنع والخداع، وزحام جماهير الهاشتاقات والترندات والجموع الغفيرة على وسائل التواصل الاجتماعي. فلا تطلب المدوِّنة مشاهدات مرتفعة، ولا شهرة زائفة، ولا معجبين مجهولين. إن كل مدوِّن ومدوِّنة كائنات مرهفة، حالمة، شاعرية، عميقة، لديها حس فني وإبداعي رفيع، كما أنها مغامِرة. فالوعي بأفكارك ودواخلك مغامَرة، فضلًا عن كتابتها ومشاركتها مع الآخرين، ويزداد الأمر خطورة في المناخات المشحونة والمهدِّدة.
المدوَّنات تثير فيّ شعور الحنين إلى ذلك الزمن الأصيل. بدايات الإنترنت. بدايات المحتوى الرقمي. أيام العقد الأول من الألفية الثالثة (2000-2010). أيام المنتديات المثرية. أيام الفلوقات العفوية. أيام كان الإنسان الرقمي إنسانًا حقيقيًا، لا مجرد رقم على شاشة. أيام كان العالم الرقمي انعكاسًا للعالم الواقعي، وليس العكس. أيام كنا نأخذ الأمور بجدية. أيام كنا نناقش القضايا المهمة. أيام ما قبل التفاهة والعدمية والخواء المعرفي والذوقي والقيمي والإبداعي. أيام ما قبل الاستسلام التام. أيام الحراك. أيام الفعل. أيام الأمل. أيام الحقيقة.
لقد تجاوزنا كل ذلك الآن، أدرك ذلك. كما أدرك أن حديثي أعلاه قد يكون تطبيقًا عمليًا لما يُعرف بمصطلح «رَومسة الماضي - Romanticising the Past». أدرك كل ذلك وأعيه، ومع ذلك أدونه، وهذه إحدى مزايا التدوين: أن توثق سرديتك الداخلية وتخرجها للعلَن وتشاركها مع الآخرين. هذه العملية تحوُّلية بكل معنى الكلمة. إنك تتحول، داخليًا وخارجيًا، بتحول سرديتك.
في الختام
لم أتوقع أن تطول التدوينة الأولى إلى هذا القدر. لقد كتبت ليومين متتاليين ساعات وساعات. مع ذلك، لم أرد التوقف لحظةً، وهذا مؤشر جيد.
صحيح أنني شدّدت على نقطة المرونة العالية التي تتيحها المدونات، والتحرر من القوالب والشروط. قد يفهم البعض أنني لا أقدر على الرقي إلى تلك المتطلبات والمعايير، وأنها تفوق مهاراتي الكتابية والبحثية، ولهذا أتهرب منها. لكني أنظر إلى المسألة من الجانب المعاكس: فأفْضل كتاباتي لا تظهر إلا بتجاوز الشروط والمعايير. أنا مستعد للمراهنة على ذلك، وسأسعى إلى مشاركة أفضل ما لدي، وأترك لك، عزيزي وعزيزتي القارئ/ة، وللزمن التقييم والحكم بتصنيف كتاباتي إلى جانب التجاوز أو القصور.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.