تخطى الى المحتوى

جدوى الأفعال الضئيلة

عبدالرحمن الشنقيطي
عبدالرحمن الشنقيطي

جدول المحتويات

هناك انطباع قد يأتي للإنسان عندما يباشر فعلًا ما بأنه لابد وأن يكون تحققه الواقعي مماثل لخياله الذهني، إلا أن التجارب تثبت استحالة الانطباق التام بين العالمين في جميع الأحوال.

فثمّة واقع ملموس، وثمة تصوُّر متخيَّل.

تحصل التصورات عبر عمليات ذهنية مدعومة بملايين أو مليارات الحركات العصبية، والتي تتيح بناء كمٍّ هائلٍ من العوالم اللانهائية خلال فترات قصيرة.

إلا أن الواقع المادي له حدود، والموارد فيه معدودة إذا ما قورنت بتوقعات الذهن، مما يحتم وجود فجوة -كثيرًا ما تكون بالغة الضخامة- بينهما.

هذه الفجوة بين الواقع والتصور يمكن لها أن تدفع بعض الأشخاص إلى تجنب الفعل جملةً، حتى وإن توفرت بعض الأفعال الضئيلة المقربة إلى الغاية المرجوة، ولو بدرجة دنيا.

السبب يكمن في أن الذهن، بعملية حسابية-نفسية سريعة، يجعل الصورة المتخيلة معيارًا لتقييم الواقع، وما إن يرى تلك الفجوة بينهما حتى يحتقر الفعل الضئيل المتاح ويختار العزوف التام عنه.

هناك جانب آخر لتقليص الفجوة، ألا وهو ضبط التصورات ووضع التوقعات السليمة. فالفجوة لا تأتي من محدودية الواقع فحسب، وإنما أيضًا من وضع تصورات بعيدة تمامًا عن الواقع، وضبطها يساعد على سد الفجوة بينهما. هذا الأمر يقودنا إلى معضلة صعبة، حيث أن «ضبط التصورات ووضع التوقعات السليمة» قد يؤدي إلى خفض مستوى الطموح، مما قد يحرم الإنسان من أمور كان يظنها مستحيلة وهي في الواقع ليست كذلك. الحل يكمن في محاولة إبقاء مستوى ذهبي واتزانٍ عبقري من الطموح شبه الواقعي، الذي لا يتبين إلا مع تكثر التجارب والخبرات، ومرور الزمن.

لكن حتى مع نمو الخبرة وتقدم الزمان، هناك انحيازات ذهنية تغفل مقارنةً أخرى لا تقل أهمية: الفعل الضئيل مقابل اللافعل، والتي ستُرجّح الوجود مع النقصان على العدم المحض (إلا ما ندَر)، والتي بها تثبت جدوى الأفعال الضئيلة.

-

عندما أقول «ضئيلة» Tiny فأنا لا أقصد «قليلة» أو «صغيرة» فحسب، وإنما أقل القليل، وأصغر الصغير. لماذا أذكر هذه الملاحظة؟ لأن الصغير والقليل أحيانًا يجعل الإنسان يتكاسل عن الفعل بحجة أنه يستطيع فعل ما هو أفضل من ذلك، ولكنه بحاجة إلى وقت أطول، مما يقوده إلى التأجيل والتسويف، ومن ثم التخلي عن الفعل أو المشروع جملةً في نهاية المطاف. أما الأفعال الضئيلة، أقل القليلة، وأصغر الصغيرة، فإنها تكون متاحة للفعل المباشر، بالحد الأدنى من الإجراءات Minimal Friction الآن وهنا، وهذا يجعلها أقل ثقلًا على النفس والتصور والموارد، في الوقت والجهد والمال والعاطفة وغيرها.

شخصيًا، لدي معيار أطبقه من وقت لآخر: عندما أرى نفسي في موقف أقترب فيه من منحدر التأجيل والتسويف، أُسائل نفسي بخفّة: ما الفعل الضئيل الذي يمكن لي فعله الآن وفي هذه اللحظة بأدنى درجة من الاستهلاك الوقتي والمالي والنفسي والجهديّ؟ عادةً ما أستحضر إجابة سريعة. إذا شعرت بتفاهة الأمر (نفسيًا) وكنت واثقًا من قدرتي على فعله وفعل أضعافه حتى، عندها أعتبر الفعل ضئيلًا، فأتشجع لتنفيذه. وبمجرد إتمامه تصبح لدي طاقة لفعل المزيد، وكأن هذا الإنجاز الضئيل تحول فجأةً إلى وقود داخلي. أي وكأني أغري الجانب الكسول مني لعمل الأمور المطلوبة عن طريق الأفعال الضئيلة.

هنا تظهر جدوى الفعل الضئيل، خصوصًا عند تحقق نتائج تراكمية ومضاعفة، حيث أن الفعل بحد ذاته يقرّبك نحو ما تريد إذا فعلته مرة واحدة، ثم إذا كررته مجددًا سيتراكم مع الزمن، كما سيسحبك إلى زيادة فعله وتحسينه بأمور إضافية مساندة (لأنك دخلت بالموود)، وهذه بذاتها تتضاعف وتتراكم بمرور الوقت.

-

الأفعال الضئيلة ليست هي نفسها «العادات الضئيلة». «العادة» تحمل معها عبئًا مسبقًا بوجوب التكرار والالتزام به إلى الأبد (أو هكذا يوحي المصطلح)، فضلًا عن عبئ تصميم العادة نفسها قبل ذلك، وتحسينها بعد ذلك. أما الفعل الضئيل فهو خالٍ من الأعباء: افعل أقل القليل، الآن وهنا، بغض النظر عن أي أمر آخر.

قد تغرس في نفسك عادة تنفيذ الأفعال الضئيلة مع مرور الزمن، لكنها ستأتي بتلقائية غير إجبارية، بخلاف العادة المقصودة التي فيها نوع من الإجبار والضغط الذاتي. لا يعني ذلك أن الإجبار والضغط الذاتي والالتزام أمور سيئة أو غير مرغوبة. هذا مجرد توصيف للمقارنة فحسب.

لكن تنبّه إلى هذه النقطة المهمة: متى تلجأ إلى الفعل الضئيل؟ عليك التنبؤ بأنه علاج لحالات بعينها، مربطها يعود إلى كونك محصورًا تمامًا بين خيارين أحلاهما مر: الضآلة أو العدم. أما إذا كانت لديك مساحة لخيارات أخرى متاحة، فالأحرى بك الارتقاء نحو الخيار الأجدى، من فعلٍ صغير (فوق الضئيل) أو متوسط أو كبير أو هائل أو عظيم، إن كان تنفيذه مقدورًا لك عمليًا على أرض الواقع المشاهَد، لا في عوالم الفكر والمثال والخيال.

أخيرًا: يمكن تطبيق المفهوم على مستوى الحياة الفردية اليومية، وكذلك على المشاريع والمنظمات التجارية والحكومية وغيرهما.

-

بناءً على كل ما سبق، أحيانًا علينا مباشرة الفعل وتنفيذ العمل الذي يبدو لنا ضئيلًا حقيرًا وتافهًا، مثل رمشة عين، أو استنشاقة نفَس، أو نقرة إصبع، كما تبدو لي هذه التدوينة.

فحياتنا في نهاية المطاف عبارة عن تراكمات ضئيلة.

منشورات أصلية

تعليقات


المنشورات ذات الصلة

للأعضاء عام

إدنبره - المدينة التي وقعت في غرامها

زرت مدينة إدنبره (عاصمة اسكتلندا) في رحلة عائلية لمدة أسبوعين، ما بين 19 جولاي و 2 أوقست 2024. كانت هذه زيارتي الأولى للمدينة (ولاسكتلندا عمومًا، إذا اعتبرناها مختلفة عن بريطانيا). البداية كانت خالية من التوقعات. لم أقرأ حرفًا عن المدينة إلا عند رحلة الذهاب (تصفحت ويكيبيديا سريعًا)

إدنبره - المدينة التي وقعت في غرامها
للأعضاء عام

ملاحظات سريعة حول الذاكرة الرقمية والهوية الشخصية

«الذاكرة الرقمية أصبحت متشابكة مع ذواتنا الشخصية، وبالتالي فإنها تؤثر على أسئلتنا الجوهرية: من نحن، ومن نكون، وكيف نعيش» كنت في محادثة مع أحد الأصدقاء المقربين، وهو من القلائل الذين يعرفونني جيدًا ويسمعون بالتجارب والمغامرات التي أمر بها في حياتي اليومية منذ سنين، خاصة مع ترحالي المستمر وعيشي بين

للأعضاء عام

وأخيرًا!

مدونة تجمع بين البساطة والأناقة، أستطيع الكتابة فيها والنشر بكل أريحية، دون القلق حيال أمور تقنية أو مظهرية أو إجرائية أو أيٍّ من ذلك الهراء. منصات المواقع العالمية ومشكلاتها قد يبدو الأمر تافهًا في بداية الأمر، إلا أن إنشاء مدونة أنيقة تتوافق مع الكتابة العربية ليس بالأمر السهل على